
مؤشر ناسداك المركب : مرآة التكنولوجيا الأمريكية وديناميكية الابتكار
.
من بين المؤشرات المالية العالمية التي اكتسبت شهرة واسعة خلال العقود الماضية، يبرز مؤشر ناسداك المركب كرمز لتحولات السوق الأمريكي وتطوره باتجاه الاقتصاد الرقمي. فقد أصبح هذا المؤشر يعكس بوضوح ليس فقط أداء شركات التكنولوجيا الكبرى، بل أيضًا المزاج العام للمستثمرين تجاه الابتكار والمخاطرة في الأسواق المالية.
تأسس مؤشر ناسداك المركب في عام 1971، بالتزامن مع إطلاق بورصة ناسداك كأول بورصة إلكترونية في العالم. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بثورة التقنية في الولايات المتحدة، وأصبح الملاذ الطبيعي لكل شركة ناشئة تسعى للوصول إلى التمويل العام، وكل مستثمر يرغب في اقتناص الفرص في قطاعات النمو السريع. ما يميز هذا المؤشر عن غيره، أنه لا يقتصر على عدد محدد من الشركات، بل يضم جميع الشركات المدرجة في بورصة ناسداك، والتي يزيد عددها عن ثلاثة آلاف شركة، ما يجعله أحد أوسع المؤشرات من حيث التغطية.
الطابع الأساسي الذي يميز مؤشر ناسداك هو هيمنته الواضحة لقطاع التكنولوجيا. فغالبية الشركات المدرجة فيه تعمل في مجالات البرمجيات، الحوسبة، الذكاء الاصطناعي، خدمات الإنترنت، والأجهزة الذكية. ويضم المؤشر أسماء لامعة تُعد من بين أكبر الشركات في العالم، مثل Apple، Amazon، Microsoft، Alphabet (الشركة الأم لجوجل)، وMeta (فيسبوك سابقًا). هذه الشركات وحدها تملك من القيمة السوقية ما يعادل اقتصاد دول كاملة، مما يجعل أداء مؤشر ناسداك في كثير من الأحيان مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بمزاج السوق تجاه قطاع التقنية.
لكن ما يجعل هذا المؤشر مميزًا أيضًا هو شدة تقلبه. فعلى عكس مؤشرات مثل داو جونز أو حتى S&P 500، يُظهر ناسداك استجابة أكبر للتغيرات في أسعار الفائدة، ومستوى السيولة، وتوجهات المستثمرين نحو أسهم النمو. فحين تكون الفائدة منخفضة وتتوفر السيولة، ترتفع شهية المخاطرة ويتجه المستثمرون إلى شراء أسهم التكنولوجيا، مما يدفع ناسداك إلى الصعود. أما في حالات التشديد النقدي، فيبدأ المستثمرون بالخروج من الأسهم عالية التقييم والعوائد المؤجلة، ما يؤدي إلى تراجعات حادة في المؤشر.
ومن الناحية التقنية، يُحسب مؤشر ناسداك المركب على أساس القيمة السوقية المعدلة للأسهم الحرة، ما يعني أن الشركات ذات القيمة السوقية الأكبر لها تأثير أكبر على حركة المؤشر. إلا أن هذه المنهجية تجعل المؤشر عرضة للانحراف إذا سيطرت عليه مجموعة صغيرة من الشركات العملاقة، وهو ما يُعرف بظاهرة "التحيز نحو الشركات الكبرى"، والتي برزت بوضوح في السنوات الأخيرة مع تضخم قيم شركات مثل Apple وNvidia وTesla.
لا يقتصر دور مؤشر ناسداك على كونه مقياسًا لأداء السوق فحسب، بل بات يُستخدم كمؤشر لاتجاهات الاقتصاد العالمي نحو الرقمنة، كما يُمثل بوابة لمتابعة أداء الشركات الناشئة والمتوسطة، لا سيما تلك التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة في بورصة ناسداك. وفي هذا السياق، أصبح المؤشر مرآة حقيقية لصناعة المستقبل، بقدر ما يعكس واقع الحاضر.
كما أن العديد من المنتجات المالية، مثل الصناديق المتداولة في البورصة (ETFs) والعقود الآجلة وعقود الخيارات، باتت ترتبط بشكل مباشر بأداء هذا المؤشر، ما يزيد من أهميته ويجعله محوريًا في استراتيجيات المتداولين على المدى القصير والطويل على حد سواء. ويُنظر إلى أدائه اليومي والأسبوعي كإشارة إلى معنويات السوق العالمية، نظرًا لتأثيره في حركة رؤوس الأموال واتجاهات الاستثمار المؤسسي.
في النهاية، يمكن القول إن مؤشر ناسداك المركب ليس مجرد مؤشر مالي تقليدي، بل هو تمثيل حي لاقتصاد متسارع الخطى، يعتمد على الابتكار والمعرفة. وإن مراقبته وتحليله لا يُفيد فقط في فهم أداء الشركات التقنية، بل يكشف كذلك عن التحولات العميقة في عقلية السوق واستعداده لتبني المستقبل قبل أن يصبح واقعًا.