مؤشر داو جونز الصناعي

مؤشر داو جونز الصناعي : رمز السوق الأمريكي القديم وحديثه

.

يُعد مؤشر داو جونز الصناعي أحد أقدم وأشهر المؤشرات المالية في العالم، بل يمكن القول إنه الاسم الأكثر ارتباطًا بالسوق الأمريكي في الأذهان العامة، لما يتمتع به من تاريخ طويل وثقل رمزي كبير. ورغم التطورات التقنية والتوسع الهائل في المؤشرات الأخرى، لا يزال داو جونز يحتفظ بمكانته كمؤشر نفسي واستراتيجي يعكس الاتجاه العام لاقتصاد الولايات المتحدة، لا سيما في أوقات الأزمات أو التحولات الاقتصادية الكبرى.

أُنشئ هذا المؤشر في عام 1896 من قبل الصحفي الأمريكي تشارلز داو، مؤسس صحيفة وول ستريت جورنال. وكان الهدف من تأسيسه آنذاك هو توفير وسيلة مبسطة لقياس أداء سوق الأسهم من خلال مجموعة مختارة من الشركات الكبرى ذات الطابع الصناعي. ورغم التغيرات التي طرأت على طبيعة الاقتصاد الأمريكي، من اعتماد على الصناعات الثقيلة إلى اقتصاد رقمي وخدماتي، احتفظ المؤشر باسمه وتكوينه المميز، وبقي يُعرف باسم "داو جونز الصناعي"، حتى وإن لم تعد جميع شركاته صناعية بطبيعتها.

يتكوّن المؤشر من ثلاثين شركة فقط، يتم اختيارها يدويًا من قبل لجنة مستقلة، بناءً على شهرة الشركة، حجمها، واستقرارها المالي، بالإضافة إلى تنوعها القطاعي. هذه الشركات تمثل رموزًا للاقتصاد الأمريكي، مثل Coca-Cola، Boeing، McDonald's، وApple، ويُنظر إليها باعتبارها شركات ناضجة تمثل قمة الهرم في مجالاتها. ولذلك فإن التغير في تركيبة هذا المؤشر لا يحدث كثيرًا، ويُنظر إليه كمؤشر محافظة واستقرار.

الطريقة التي يُحسب بها داو جونز تميّزه عن معظم المؤشرات الأخرى، فهو مؤشر يُحسب على أساس سعر السهم فقط، أي أن وزن كل شركة في المؤشر يتحدد بسعر سهمها، بغض النظر عن عدد أسهمها أو قيمتها السوقية. هذه الآلية تُعرف باسم "الوزن السعري"، وتُعد قديمة مقارنة بمنهجيات أكثر دقة تعتمد على الرسملة السوقية، مثل ما يُستخدم في مؤشر S&P 500. ولهذا السبب، فإن حركة المؤشر قد تتأثر بشكل كبير بأي تغير في سعر سهم شركة واحدة ذات سعر مرتفع، حتى وإن كانت أصغر من حيث القيمة السوقية.

لكن رغم محدودية عدد مكوناته وطريقة احتسابه التقليدية، لا يمكن التقليل من أهمية مؤشر داو جونز، خاصة على الصعيد الإعلامي والنفسي. فحين يُقال إن "السوق الأمريكي ارتفع اليوم"، غالبًا ما يكون المقصود أن مؤشر داو جونز قد ارتفع. فهو يلعب دورًا معنويًا لا يمكن تجاهله، كما يُستخدم في معظم نشرات الأخبار والتقارير الاقتصادية كمؤشر فوري لحالة السوق.

يميل هذا المؤشر إلى أن يكون أقل تقلبًا من مؤشرات مثل ناسداك، نظرًا لطبيعة الشركات التي يتكوّن منها، والتي تتميز عادة بالاستقرار والربحية المستمرة. ولذلك يُفضله بعض المستثمرين المحافظين أو من يفضلون تتبع توجه السوق العام دون التعرض لتذبذبات القطاعات الحساسة مثل التكنولوجيا أو الابتكار. كما أن تاريخه الطويل يجعله أداة ثمينة في التحليل التاريخي للسوق، حيث تُستخدم بياناته في تتبع دورات الاقتصاد الأمريكي منذ أكثر من قرن.

من الناحية العملية، يُستخدم مؤشر داو جونز أيضًا كأساس للعديد من المنتجات المالية، مثل صناديق المؤشرات والعقود الآجلة، ما يجعله لاعبًا حقيقيًا في السوق، وليس مجرد رمز تاريخي. كما أن المستثمرين المؤسسيين وصناديق التقاعد يستخدمونه في تقييم أداء محافظهم، وتحديد مراكز السوق، وتفسير تحولات المزاج الاستثماري.

في النهاية، يمكن القول إن داو جونز ليس فقط مؤشرًا لثلاثين شركة، بل هو تلخيص لتاريخ طويل من تطور السوق الأمريكي، من الثورة الصناعية إلى الاقتصاد الحديث. ورغم ظهور مؤشرات أكثر شمولًا ودقة، سيبقى داو جونز جزءًا لا يتجزأ من الهوية الاستثمارية للولايات المتحدة، ومؤشرًا غنيًا بالرمزية والتحليل، يجمع بين الماضي والحاضر في آن واحد.

دورات قد تعجبك

المزيد