
سوق المشتقات السعودي:
بين فرص النمو وتحديات التفعيل
يُمثّل سوق المشتقات المالية أحد أهم ركائز الأسواق العالمية المتقدمة، ويُعد مقياسًا حقيقيًا لعمق السوق وكفاءته في إدارة المخاطر وتوفير أدوات متنوعة للمستثمرين. في هذا السياق، تسعى المملكة العربية السعودية من خلال “تداول السعودية” وهيئة السوق المالية إلى تطوير سوق المشتقات بشكل تدريجي ومنظّم، بما يتماشى مع أهداف رؤية 2030 المتمثلة في تحويل المملكة إلى مركز مالي إقليمي وعالمي، وتحفيز السيولة والاستثمار المؤسسي.
انطلق سوق المشتقات السعودي فعليًا في عام 2020 بإطلاق أول منتج مشتق، وهو العقود المستقبلية على مؤشر MT30، الذي يضم أكبر 30 شركة مدرجة من حيث السيولة والقيمة السوقية. مثّل هذا المنتج خطوة أولى نحو فتح باب جديد للمستثمرين يتيح لهم التحوط من تقلبات السوق أو بناء استراتيجيات تداول احترافية دون الحاجة إلى امتلاك الأصول الأساسية. كما وفّر هذا السوق بيئة خاضعة للتنظيم تخضع لمراقبة صارمة من هيئة السوق المالية، مع بنية تحتية فنية وتنظيمية طوّرتها "مقاصة"، وهي شركة تابعة لمجموعة تداول، تتولى تسوية وإدارة المخاطر في عقود المشتقات.
تكمن الفرص الرئيسية في سوق المشتقات السعودي في كونه لا يزال في بدايته، ما يعني أن أمامه مساحة واسعة للنمو والتطور. أول هذه الفرص تتجلى في استقطاب فئة جديدة من المستثمرين المحليين والعالميين الذين يبحثون عن أدوات مشتقة للتحوّط أو تحقيق عوائد باستخدام استراتيجيات متقدمة مثل البيع المكشوف، واستراتيجيات السبريد، والتحوّط ضد تقلبات المؤشرات. كما أن وجود سوق مشتقات نشط يُسهم في تحسين كفاءة التسعير في السوق الفوري، إذ يعكس توقعات المستثمرين بشكل أسرع وأكثر دقة.
تُعد إضافة منتجات جديدة مثل العقود الآجلة على الأسهم الفردية، أو إدراج عقود خيارات (Options)، من أهم المحاور المنتظرة لتوسيع نطاق السوق وتعزيز أدوات المستثمرين. كما أن تنويع المشتقات لتشمل السلع، المؤشرات الإقليمية، أو حتى العملات مستقبلاً، سيُرسّخ مكانة السوق السعودي كمركز مشتقات متكامل في منطقة الخليج.
ومع هذه الفرص، لا يمكن إغفال التحديات الجوهرية التي تواجه هذا القطاع. أول هذه التحديات هو انخفاض الوعي والمعرفة الفنية لدى شريحة واسعة من المستثمرين الأفراد، ما قد يؤدي إلى استخدام المشتقات بشكل غير مدروس أو مضاربي مفرط، وهو ما قد ينعكس سلبًا على الاستقرار العام للسوق. إضافة إلى ذلك، تواجه السوق تحديات تتعلق بانخفاض السيولة في المنتجات الحالية، نتيجة محدودية عدد المشاركين المحترفين في هذا المجال، مما يُضعف من فعالية التسعير وحجم التداول.
كما يُعد توافر مزودي السيولة (Market Makers) ضرورة أساسية لضمان نشاط مستمر في هذه السوق، وهو أمر ما زال في طور البناء في السعودية. فبدون تواجد أطراف مستعدة للشراء والبيع في أي لحظة، تفقد العقود الآجلة والخيارات جانبًا مهمًا من فعاليتها.
من التحديات أيضًا ما يرتبط بالإطار التنظيمي والتقني، فالمشتقات تتطلب بنية تحتية دقيقة لإدارة المخاطر، وتطبيق هوامش يومية وإجراءات تسوية متطورة، وهو ما يتطلب استثمارات مستمرة من السوق والجهات المقاصة.
ورغم هذه التحديات، فإن التجربة السعودية تُعد ناجحة من حيث البدايات، إذ تم الدخول في هذا السوق بأدوات محددة وبوتيرة محسوبة، تضمن تجنّب الوقوع في الفوضى أو المضاربة المفرطة. كما أن الخطط المستقبلية لهيئة السوق المالية ومجموعة تداول تشير إلى عزم واضح على التوسع المتدرج، وفق أعلى المعايير العالمية، وبما يتلاءم مع البيئة الاستثمارية السعودية وظروف السوق المحلية.
في المجمل، فإن سوق المشتقات السعودي يُمثل فرصة واعدة لتعميق هيكل السوق، وتوفير أدوات تحوّط متقدمة، وجذب فئات استثمارية جديدة. لكنه في الوقت ذاته يتطلب استراتيجية متكاملة تجمع بين التوعية، والتدرج في الطرح، وتحفيز السيولة، وتعزيز البنية التحتية الفنية والتنظيمية. وإذا ما تمكّن السوق من تجاوز هذه التحديات، فسيكون له دور محوري في تطور الأسواق المالية في المملكة وفي المنطقة بأسرها.
,,